حول الغرب والإسلام والارهاب والمثقف العربى والسلطة


بقلم: سعيد ســــالم 

يثار الآن سؤال في منتهى الخطورة حول ما آلت اليه العلاقة بين الغرب والإسلام من تدهور ينذر بكارثة..لا أحد ينكر اشتعال هذا الصراع،ولكن هناك تيارا فكريا يؤججه ويتزعمه بعض المفكرين الذين-لحسن الحظ-تصدى لهم آخرون ، معارضين لنظرياتهم ومفندين لها بالحجة والمنطق.كما يزيد من حدة الصراع جماعة من المهووسين الدينيين الذين هم في واقع الأمر ضحايا لفكر هؤلاء المفكرين،وأدوات مجردة لتنفيذ هذا الفكر كيفما كان اتجاهه الثقافى..بينما تقول حقائق التاريخ والدين والثقافة أن أوجه الخلاف بين حضارة الغرب وحضارة الاسلام أقل بكثير من أوجه الاتفاق..وفى رأيى أن هناك فئات ثلاث ساهمت وروجت للعداء بين الاسلام والغرب.

الفئة الأولى يمثلها مفكرون أمريكيون ثلاثة عرضوا أفكارهم حول هذه القضية في مؤلفات كان تأثيرهاالسلبى شديدا على العالم بأسره.الأول هو ريتشارد نيكسون في كتابه “
seize the moment “ أو"انتهزوا الفرصة"،والثانى هو فرانسيس فوكوياما في كتابه"نهاية التاريخ"،والثالث وهو أخطرهم:صمويل هنتنجتون في كتابه "صراع الحضارات"أو" of civilizations clash".

وتدور الكتب الثلاثة على وجه العموم في فلك عنصرى يروج لحتمية سيطرة ثقافة الغرب وسياسة الغرب واقتصاد الغرب على العالم كله من جهة، وتروج من جهة أخرى لفكرة أن الإسلام هو العدو الحتمى للحضارة الغربية من بعد سقوط الشيوعية..ويكفى أن نقرأ هاتين العبارتين لصمويل هنتنجتون:
1-(إن لم نكره ماليس نحن، فلن يمكننا أن نحب ماهو نحن)!!!
2-(نحن لانعرف من نكون إلا عندما نعرف من ليس نحن،وذلك يتم غالبا عندما نعرف ضد من نحن)!!!
يكفى أن نقرأ هاتين العبارتين لنستدل منهما على براعة الكاتب فىبث سموم العداء والتفرقة والكراهية والعنصرية بين شعوب العالم وحضاراتها ، وليس بين الاسلام والغرب فقط.

أما الفئة الثانية فيمثلها المستشرقون الذين تعاملوا مع القرآن على طريقة " لاتقربوا الصلاة"
فاقتطعوا منه بعض النصوص التى تحض على قتال المعتدين وعزلوها عن مسارها التاريخى زمناوحدثا، بحيث لايترك للعين أن ترى من الإسلام غير الانفجارات ودماء الأبرياء..اختلطت مفاهيم الاسلام بالإرهاب بالمقاومة المشروعة للمعتدى المحتل وضاع الحق وتفرق بين الجميع الذين عجزوا حتى الآن عن التوصل الى تعريف علمى للفظة الإرهاب.

أما الفئة الثالثة فهم الارهابيون خدام الثقافة الأصولية بشقيها الاسلامى والمسيحى..انهم أناس غسلت أدمغتهم من كل شىء إلا العداء للآخر في الدين وضرورة القضاء عليه معنويا بتكفيره وماديا بقتله ،بحيث أصبحت الصورة الماثلة أمامنا تعبر بحق عن صراع أصوليات لاصراع حضارات. وفى مقابل هؤلاء الذين يتطوعون بتفتيت أجسادهم الى قطع متناثرة تنفيذا لفكر ثقافى متخلف، نجد أن النخبة الحاكمة في أقوى وأغنى دولة في العالم تنفذ ماجاء من فكر في المؤلفات الثلاثة المشار اليها تنفيذا يكاد يكون حرفيا.ويكفى أن ننظر بعين العدل والإنصاف الى مايحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان تحت راية مايسمى بالنظام العالمى الجديد أو عولمة العالم أو بتعبير أدق:أمركة العالم،حتى نتأكد من صحة هذا الادعاء..فالعولمة تعنى سيادة الشركات عابرة القارات بما يؤدى الى تحطيم قدرات الدولة القومية،وهى تعنى مصنعا عالميا واحدا وسوقا عالمية واحدة تهيمن عليه هذه الشركات بعيدا عن القيم الانسانية والوطنية.وهذا يؤدى بدوره الى نمو النزعات الطائفية والثقافية وسيادتها كرد فعل انسانى يائس لحاجة الانسان الغريزية الى ملاذ روحانى ثقافى دينى يحتمى به من هذه الهجمة اللاانسانية،والتى جعلت روجيه جارودى يصف الغرب بأنه قد"استبدل بوحدانية الله وحدانية السوق".

اننى أنظر الى النظام العالمى الجديد الذى تقوده أمريكا كنظام يقوم على الفكر الداروينى القائل بأن البقاء للأقوى وليذهب الأضعف الى الجحيم،فالأقوى يبتكر وينتج والأضعف يستقبل ويستهلك ،في ظل آلة إعلامية جبارة تسوق لثقافة الغرب ومنتجاته.. وهذابالطبع لاينفى استحقاق الضعفاء والكسالى من الأمم أن تدفع ثمن تخاذلها وتخلفها عن مواكبة العصر ، فمن المؤكد أن المساواة بين من يعمل ومن لايعمل هو الظلم بعينه.يدفعنا ذلك الى أهمية أن نبحث كيف نكون أقوياء كعرب أو مسلمين حتى نستطيع التجانس والتفاعل مع حضارة الغرب السائدة،فنحن بضعفنا وتشتتنا وتخلفنا صرنا نقدم أنفسنا طوعا كفريسة سهلة المنال في عالم اختزلت فيه العلاقات الانسانية الى علاقة واحدة بين مفترس وفريسة،وهذا يذكرنى بقصة يوسف ادريس"أنـا سلطان قانون الوجود" التى تعبر بحق عن هذه الفكرة ، إذ التهم النمر محمد الحلو لحظة شعوره بانكسار نظرته.

لاجدوى من البكاء على الأطلال ، ولنستشهد هنابقول ريتشارد نيكسون في كتابه المذكور نصا وحرفا: (بينما ذبلت أوروبا في العصور الوسطى، تمتعت الحضارة الاسلامية بعصرها الذهبى حين أسهم الإسلام بمجهودات هائلة في مجال العلوم والطب والفلسفة،وقد لاحظ وول ديورانت في كتابه"عصر الإيمان"أن الإنجازات الهامة في كل الميادين قد تحققت على يد مسلمين في هذه الفترة..وطيلة خمسة قرون من700-1200م فإن العالم الاسلامى تقدم وتفوق على العالم المسيحى فيمايتعلق بالقوة الجيوبوليتيكية ومستوى المعيشة وتقدم القوانين ومستوى الفلسفة والعلوم والثقافة،لكن عقودا من الحرب قلبت الطاولات)..ويستطرد قائلا مايعبر عن نوايا حسنة ورائعة:( ومثلما ساعدت المعرفة من الشرق في تحريك عصر النهضة في الغرب، فإن الوقت قدحان يالنسبة للغرب كى يسهم في نهضة العالم الإسلامى)..
هذا ببساطة يعنى أننا كنا أقوياء، وأن بمقدورنا أن نعود أقوياء مرة أخرى، ولايجب أن ننسى أن ابن رشد كانوا يلقبونه بمعلم أوروبا حتى نهاية العصور الوسطى.والحق أنه يمكننا كعرب-مسلمين ومسيحيين-أن نتلمس الطريق الى هذه القوة دون التشبث بالماضى والعجز عن استشراف المستقبل.لكن هذا لايتحقق بغير الانطلاق بلا تردد فى اتجاهين:الأول سياسى واقتصادىوالثانى ثقافى، فالعرب لن تقوم لهم قائمة مالم يتكتلوا اقتصاديا وسياسيا حتى يشكلوا كيانا قويا يستطيع مواجهة التكتل المناظر للغرب والتكامل معه.لقد نجح الغرب في إقامة وحدة متكاملة لدرجة توحيد العملة رغم اختلاف اللغات والثقافات والمواقع الجغرافية ..ولكى ينجح العرب في ذلك ينبغى أن يتخلواعن ثقافة اللفظ وينطلقوا الى ثقافة الأداء والإنجاز، وعن ثقافة النقل الى ثقافة العقل،وعن ثقافة النمل الى ثقافة النحل-على حد تعبيرات استاذنا الدكتور زكى نجيب محمود-وعن الثبات والجمود الى الديناميكية والتطور..هذا الإنجاز يتمثل في تعظيم مقومات التنمية وقوة الدفع الذاتى وعدم الاعتماد على القروض والتقليل من الاستيراد السلعى والخدمى والاعتماد على تنوع الصادرات وتشجيع القوى الوطنية على الانتاج،وقبل ذلك كله إحداث ثورة في نظام التعليم بحيث يفرز لنا عقليات إبداعية لانمطية.كما يجب زيادة الانفاق على البحوث..
وفى النهاية لابد من تدعيم أسس الديموقراطية والقضاء على الفساد المستشرى بين دوائر الحكم ورجال الأعمال وأصحاب المناصب المؤثرة. ولامفر من تعظيم دور الثقافة والمثقفين في توجيه الأمور وإلغاء القيود المفروضة على الكتاب والمفكرين بحيث يتم تثقيف السياسة بدلا من تسييس الثقافة.وفى هذا الصدد تحضرنى وثيقة خطيرة عرفت باسم(وثيقة الاسكندرية2004)التى وضع بها كوكبة من المفكرين والعلماء أسسا علمية للإصلاح السياسى والاقتصادى والثقافى والاجتماعى في العالم العربى،ولكن ياخسارة..لم يبق من الوثيقة إلا مجلدها الفاخر ولم يتحرك الحكام ولم تتحرك الشعوب-وهى الأهم-خطوة حقيقية لوضع هذا الاصلاح موضع التنفيذ..انها حقا ثقافة لفظ.!

على الفكر العربى أن يجمع-انتقائيا- بين الأصالة والمعاصرة وأن يتخلى عن خلط المطلق بالنسبى والدين بالدولة،وأن يكون المنهج العلمى ركيزته الوحيدة للانطلاق الى المستقبل،فتراثنا وحده لايصلح ولايفيد فىمجال السياسة إذ لم يقدم لناحلولا ديموقراطية وإنماقدم لناحكما فرديا استبداديا تفنن في اضطهاد العلماء والمفكرين،ولايصلح ولايفيد في مجال التعليم فهو لم يقدم لنا العقلية الابداعية المبتكرة وانما قدم لنا عقلية الحفظ والتلقين والتسميع،وحتى فى مجال الأدب لم يقدم لنا المعنى بقدر ما قدم لنا السجع والمحسنات والبديعيات اللفظية.ولامفر من الاعتراف بأن سوء العلاقة بين السلطة والمفكر العربى هو أحد عوامل تخلفنا عن مواكبة الفكر العالمى المتطور..إن مايلاقيه المفكر العربى من قمع وضغط وبطش لايأتيه من جانب السلطة فقط وإنما يأتيه في معظم الأحيان من جانب المجتمع نفسه.

أما فيمايتعلق بالسلطة فالسبيل واحد ومعروف للجميع وهو أن يكون الحاكم منتخبا من شعبه بحيث يسقطه حين يريد،وأن تعمل مؤسسات الأمةكلها تحت راية الديموقراطية..حينئذ يكون المفكر عوناللسلطة وتكون السلطة عونا للمفكر على تحقيق آمال الأمة.وأما فيمايتعلق بالمجتمع الذى توارث الاستبداد وحكم الفرد عبر حقب طويلة من الزمان وانطوى على الجمود والاستكانة،قانعا بما يحدث له مكتفيا بالشكوى الى الله،فقد عجز عن بلورة هوية ثقافية أصيلة تعبر عن ذاتيته ويستطيع من خلالها أن يواجه الثقافات الرجعية الوافدة:ثقافات الفكر الأوحد والنظرة النفقية "
tunnel vision" وامتلاك الحقيقة المطلقة وتكفير الرأى المخالف..تلك الثقافة التى دفعت أميا جاهلا الىطعن نجيب محفوظ بسبب رواية لايعرف ولايمكن أن يفهم عنها شيئا، والتى فرقت بين الدكتور نصر حامد ابو زيد وبين زوجته ولفظته خارج وطنه لمجرد أنه قدم اجتهادات نظرية حول تأويل النص ، والتى دفعت سيد القمنى هذه الأيام الى اعلان انكاره لكل ماقاله وتبرئه من كل ما كتبه حفاظاعلى حياته من التهديد الارهابى بقتله..انه يذكرنى ببراعة جاليليو في الافلات من عقوبة محاكم التفتيش حين أعلن إنكاره لرأيه عن دوران الأرض حول الشمس،وكذلك بابن رشد حين ابتكر فكرة الحقيقة المزدوجة عن الجمع بين الدين والعقل بدلا من إعلاء العقل على الدين حتى ينجو بجلده من تهمة الهرطقة أو الزندقة أو الاشتغال بالفلسفة.

إذن فالمصالحة بين المفكر العربى وبين السلطة من جهة والمجتمع من جهة أخرى تصبح رهينة إصلاح جذرى ينبغى أن يسير في الاتجاهين،ولكن من الواضح أن كلا من الطريقين في الوقت الراهن أشد وعورة من الآخر،لأن السلطة تسخر الإعلام في خدمة الترويج لمصالحها ولسياساتها الفاشلة في أغلب الأحيان،ولأن المجتمع الذى يعانى من الأمية الكتابية والأمية الثقافية قد تدهور وانفصم على نفسه بين أصولية تشده الى الماضى وتغريب يفقده هويته،فخلط بين المطلق والنسبى وتاه بين الماضى والحاضر والمستقبل، بينما انطلقت الى الأمام دول ليس لها ماض عريق تمحكت في ماضى غيرها..فأوروبا التى بدأت نهضتها ق15و16 تستند في هذه النهضة الى التراث اليونانى الذى لم تشارك فيه بمثقال ذرة قبل أن ينقله اليها العرب ،ولقد شهد شاهد من أهلهاوهو"وايتهيد"الذى قال "الصناعة من مصر والدين من فلسطين والفلسفة من اليونان"كما شهد المستشرق جورج ساتون بقوله"لولا محنة المغول ثم انحسار الفكر العلمى في المشرق لكانت حضارة أوروبا التى يتباهى بها الغرب منذ عصر النهضة من نصيب مفكرى الاسلام".

ونعود من حيث بدأنا حول العلاقة المتأزمة بين الاسلام والغرب خاصة منذ أحداث11سبتمبر، لنبحث عن حل تصالحى بينهما يعيد السلام الىالعالم قبل أن يغرق فىالمزيد من الدماء.إن أفضل السبل للوصول الى هذا التصالح هو نبذ الفكر التآمرى وعدم التركيز على الجوانب السلبية من الخلاف والتى تقوم على صراع الرفض والكراهية..ومن هذا المنطلق فأنا أرفض دعوة هنتنجنون العنصرية الى العداء والكراهية بين الحضارات شكلا ومضمونا وجملة وتفصيلا كما عبر عنها بوضوح في كتابه.وفى نفس الوقت أتمسك بدعوة نيكسون الرائعة في كتابه بقوله"ان الوقت قد حان بالنسبة للغرب للاسهام في نهضة العالم الاسلامى كما أسهم العالم الاسلامى من قبل في نهضة الغرب، وإذا سعينا الى حل القضايا الأمنية الصعبة التى تعصف بالشرق الأوسط،وإذا عملنا معا ودمجنا الأفضل من حضارتينا فإن الفترة القادمة من تاريخنا ستكون فترة تعاون بناء لانزاع مدمر."

المشكلة انه من بعد احداث سبتمبر اختزلت أمريكا الصراع بين حضارة الغرب والحضارات الأخرى التى ذكرها هنتنجتون، الى صراع واحد بين الغرب والاسلام..هذا الدين البرىء من تلك الجرائم البربرية اللاانسانية ..هذا الدين الذى يقول"وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"لالتتقاتلوا وتتناحروا..ورغم تعاطفى الشديد-كمثقف عربى- مع ضحايا11سبتمبر وتفجيرات لندن وشرم الشيخ،الا أننى-وكثيرون مثلى-نهيب بأمريكا أن تعدل من مواقفها غير العادلة في بعض القضايا التى تثير عليهاثائرة العرب وغيرهم من الأمم بما فيها أوروبا وأمريكا نفسها،وأن تفصل بين المقاومة المشروعة للاحتلال الأجنبى وبين الارهاب الذى لادين له ولاوطن ولامنطق ولارحمة ولاانسانية.اننى أتمنى أن تستعيد أمريكا العالم وأن يستعيد العالم أمريكا نصيرة الحرية والديموقراطية التى عرفناها منذ كانت..ولقد أسعدنى الحظ بزيارة أمريكا في الثمانينيات فأحببت شعبها وعشقت الحرية التى يتمتع بها.. ويسعدنى أن أختم حديثى بالمثل الشعبى المصرى القديم الذى يقول:"من حبنا حبيناه وصار متاعنا متاعه ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه"

لا يدان المرء بشيءٍ ليس به .. ولا خلق بالناس معصوم الزلل

كثيرا منا يسمع بنظرية الاتصال عند جاكبسون والتي نقلها من الإعلام إلى ميدان الأدب ، ولكن البعض منا لم يقرأها واطلع عليها .. لذلك نقلتها لكم هنا من باب الاستفادة ولما تمثله هذه النظرية من أهمية في عالم النقد الحديث ، وذلك فيما جاء عنها في كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (الخطيئة والتكفير) رغبة في ثراء ثقفتنا جميعا 

(النص هو محور الأدب الذي فعاليته لغوية انحرفت عن العادة والتقليد ، وتلبست بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد يخصها ويميزها .
وخير وسيلة للنظر في حركة النص الأدبي ، وسبل تحرره ، هي الانطلاق من مصدره اللغوي ، حيث كان مقولة لغوية أسقطت في إطار اللفظي البشري ، كما يشخصها رومان جاكبسون في نظريةالاتصال وعناصرها الستة التي تغطى كافة وظائفها اللغة ، بما فيها الوظيفة الأدبية .
فالقول يحدث من (مرسل) يرسل (رسالة) إلى (مرسل إليه) . ولكي يكون ذلك علميا ، فإنه يحتاج إلى ثلاثة أشياء هي :
1- (سياق) وهو المرجع الذي يحال إليه المتلقي كي يتمكن من إدراك مادة القول ويكون لفظيا أو قابلا لشرح اللفظي .
2- (شفرة) وهي الخصوصية الأسلوبية لنص الرسالة . ولا بد لهذه الشفرة أن تكون معروفة بين (المرسل) و(المرسل إليه) تعارفا كليا أو على الأقل تعارفا جزئيا .
3- (وسيلة اتصال) سواء حسية أو نفسيه للربط بين الباعث والمتلقي لتمكنهما من الدخول والبقاء على (اتصال) .
والذي يهمنا هو الوظيفة الأدبية ، وذلك حين يصبح القول اللغوي أدبا ، وهو تحول فني يحدث للقول بنقله من الاستعمال النفعي إلى الأثر الجمالي .
يحدث ذلك من خلال حركة ارتدادية ، فالرسالة – كقول لغوي – تتجه عادة بحركة سريعة من باعثها إلى متلقيها وغايتها هي نقل الفكرة ، وإذا ما فهم المتلقي ذلك انتهى دور المقولة عندئذ ، ولكن في حالة (القول الأدبي) تنحرف (الرسالة) عن خطها بحيث لا يصبح (المرسل) باعثا ، و (المرسل إليه) متلقيا .
ويتحول القول اللغوي من (رسالة) إلى (نص) ولا يصبح هدفها (نقل الأفكار) أو المعاني بين طرفي الرسالة ، ولكنها تتحول لتصبح غاية في نفسها ، وهدفها هو غرس وجودها الذاتي في عالمها الخاص بها وهو جنسها الأدبي الذي يحتويها .
وهذا التوجه يتعقد في أطوار تكوّنه ويجلب إليه عناصر أخرى مهمة مثل عنصر (السياق) و (الشفرة) .
فالسياق عند جاكبسون هو الطاقة المرجعية التي يجري القول من فوقها ، فتمثل خلفية للرسالة تمكن المتلقي من تفسير المقولة وفهمها . فالسياق إذن هو الرصيد الحضاري للقول وهو مادة تغذيته بوقود حياته وبقائه . ولا تكون (الرسالة) بذات وظيفة إلا إذا أسعفها (السياق) بأسباب ذلك ووسائله . وكل نص أدبي هو حالة انبثاق من نصوص تماثله في جنسه الأدبي .
ولذلك فإن (الرسالة) في تحولها إلى (نص) تأخذ معها (السياق) وتحل فيه ليساعد على تحويل توجهها إلى داخل نفسها ، ولكن هذه العملية تحمل خطورة كبيرة على مصير (الرسالة) ، وذلك لأن السياق أكبر وأضخم من الرسالة ، وهو أسبق منها إلى الوجود .
فالسياق كتقليد أدبي راسخ قد يتغلب على (النص) ويجعله مجرد محاكاة لما سبقه من نصوص مماثله . ولو حدث هذا – وكثيرا ما يحدث – فأن النص سيسقط ويصبح نصا فاشلا كتقليد مفضوح ، ولا بد هنا من ذكاء (المرسل) الذي هو المبدع كي ينقذ النص من السقوط . وخير السبل لذلك هو الاستعانة بـ (الشفرة) .
والشفرة هي اللغة الخاصة بالسياق ، أي إنها الأسلوب الخاص بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص الأدبي . ولشفرة خاصية إبداعية فريدة ، فهي قابلة لتجدد والتغير والتحول ، حتى وإن ظلت داخل سياقها . بل إن المبدع نفسه – كفرد – قادر على ابتكار شفرته التي تحمل خصائصه هو جنبا إلى جنب مع خصائص شفرة السياق الخاصة بجنسه الأدبي الذي أبدع فيه .
ولكن تغير الشفرة لو اطرد وشاع في جيل تتضافر إبداعاته في تكوين شفرة تتميز عن سوابقها حتى لتختلف عنها ، فإننا عند ذلك سنكون على مشهد من ولادة سياق جديد ينبثق من محصلة تغير الشفرة الواسع . وذلك ما حدث في تكوين سياق (الشعر الحر) في الأدب العربي الحديث)) .

كتبهاعبدالله الدحيلان


محاولة الإيقاع بين الأديان





هناك العديد من الأديان السماويّة التي قد إنتشرت في جميع أنحاء العالم، وتوجد إختلافات كثيرة بين هذه الأديان، فنجد إختلافاً على مستوى التّوحيد مثلاً، وأخرى على مستوى الوظائف التي يجب القيام بها، وثالثاً في كيفيّة الحساب ويوم القيامة، إلّا أنّ الأديان السماويّة ـ على إختلافها الشاسع ـ تشترك جميعها في عدّة أمورٍ، أهمّما وجوب القيام بأعمال معيّنة وإكتسابها، وهذه الأعمال تتمثّل بالقيم.


نعم إنّ تحديد مفهوم القيم ومقدارها وكيفيّة سلوكها، تختلف من دينٍ إلى آخر، إلّا أنّ الذي يهمّنا هو كونها جميعاً تشترك في أصل وجود قيمٍ يجب الحفاظ عليها ومراعاتها، فلا يحقّ لأفراد تلك الأديان القيام بما يحلو لهم ومتى وكيف. وليس هذا من باب الإجبار والظلم والتّسلط، وإنّما يدّعي أصحاب الأديان أنّها لمصلحة الفرد والمجتمع وللحفاظ عليهما، وهذا الأمر واضح جدّاً، فإنّ الفرد مع عدم إلتزامه بأيّ قيمٍ سيصبح كالحيوان وسينعكس الأمر سلبيّاً عليه وعلى مجتمعه، بل ستصبح حياة البشر أشبه بحياة الغابة. وهذا هو ديدن العقلاء في حياتهم ـ حتى الذين لا يؤمنون بدين ـ فإنّهم يرون وجوب وجود نظام يحفظ الفرد والمجتمع من الفوضى، ويضمن لهما الأمن والإستقرار، ولأجل ذلك تقوم الدّول بوضع القوانين والأحكام الجزائيّة وغيرها، وإلزام شعبها بما تراه مناسباً لمصلحتهم.

إذن فمن المسلّم أنّ الإلتزام بالقيم والقوانين أمرٌ طبعيّ وضروريّ في حياة البشر! إلّا أنّنا مع ذلك نجد على مرّ التاريخ، أنّ الأديان السماويّة ـ على إختلافها ـ حوربت من قِبل أصحاب السلطة والحكم والجبابرة، فهل كلّ هذا العداء من هؤلاء لمختلف الأديان، كان فعلاً بسبب عدم صلاحيّة تلك الأديان لتنظيم حياة البشر، وأنّ القيم التي كانت تدعو لها، كانت لا تتناسب مع مصلحة المجتمع، أم أنّ المعادين والمحاربين للأديان لم يكونوا عقلاء، فلم يدركوا مدى حاجة الناس والبشريّة للقيم والإلتزام بالقوانين؟

والصحيح: أنّ لا هذا ولا ذاك هو الحقّ، فإنّه لا يمكن إقناع أحدٍ بأنّ كلّ تلك الأديان السماويّة كانت فاسدة ولم تكن تشتمل على قيمٍ وأخلاقٍ وقوانين صالحة للبشريّة. ولو وجد بعض الخلل فيها، لكان الأولى معالجتها بدلاً من محاربتها بشكلٍ مطلق. وكذلك لا يمكن إقناع العالم بأنّ كلّ السلاطين والحكّام كانوا ضعفاء العقل بحيث لا يدركون حقيقة لزوم وجود قيمٍ يلتزم بها. وإلّا كيف وصل هؤلاء ـ ضعفاء العقول ـ إلى الحكم والسلطة؟

والحقيقة أنّه لا شكّ في كون كلّ الأديان تشتمل على قدرٍ كبيرٍ من القيم والإلتزامات المحقّة، وأنّ الكثير من السلاطين وأصحاب الحكم كانوا عقلاء، بل حكماء ويدركون جيّداً ضرورة القيم على حياة الإنسان، بل ضرورة الدّين أيضاً، إلّا أنّ المشكلة في إجتماع الدّين الذي أراده الله تعالى مع الدّنيا التي أرادها هؤلاء الجبابرة، حيث إنّ الله تعالى أراد للإنسان أن يكون حرّاً صاحب كرامة وعزّة، وأراد نشر العدل بين الناس، وهذا بالطّبع لا يجتمع مع أهواء ورغبات الطواغيت الذين أرادوا السيطرة على البشر وخيراتهم، والحصول على الملك لأنفسهم لا لخدمة الناس ونشر العدالة!

فكان هذا هو السبب الأساسيّ في نشر الفتنة والعداوة بين مختلف الأديان السماويّة وإظهارها بصورة بشعة، وكأنّها تسعى للسيطرة على عقول الناس فحسب، وذلك لإبعاد الناس عنها وعدم إلتزامهم بالقيم، وبعد إبتعاد الناس عن الأديان وعدم وجود مّن يوجّههم إلى طريق الحقّ، يأتي دور السلاطين وأتباعهم لتوجيه الناس وإخضاعهم لرغباتهم الشخصيّة، وعدم تمكّن الناس من مواجهتهم، وبذلك يضمنون ملكهم على حساب العدالة والحرّيّة والكرامة!

وفي عصرنا الحاضر لم يتغيير المشهد عن سابقه، فلا زالت السلاطين تحارب الأديان بمختلف أنواع الخدع والفتن، وعلى رأس هؤلاء السلاطين ـ الولايات المتّحدة الأمريكيّة ـ، فكم من بلدٍ كان آمناً يعيش أهله بسلام ومحبّة وعيشٍ مشتركٍ فيما بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين أنفسهم، فأوقعت بينهم وسلّمت الأسلحة المدمّرة لكلا الطرفين، لأنّه ليس من مصلحتها فوز أحد وسيطرته، بل هدفها الوحيد إضعافهما وتمكّنها من السيطرة عليهما معاً وعلى خيراتهما. فهذه ـ العراق ـ التي كانت تعيش الظلم من قِبل الطاغية ـ صدّام ـ إلّا أنّها لم تكن يوماً تعرف الإقتتال الدّاخلي، بل كان شعبها ـ السّنيّ والشيعيّ، والمسلم والمسيحيّ ـ يعيشون حياة مشتركة، وكان الواحد منهم يحترم الآخر، وبعد دخول الجيش الأمريكي المحتل إلى بلدهم، عانى ذلك الشعب الأمرّين من ظلمٍ وقتلٍ ومن فتنةٍ بين أديانه المختلفة، والنّتيجة أنّ كلّ الأطراف خرجت خاسرة وخلّفت دماراً شاسعاً ـ على المستوى الإقتصاديّ والرّوحي والتّعاطي بين الشعب الواحد ـ يحتاج ترميمه إلى سنواتٍ طويلة.



Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites