(جزيرة الأسرار)

 
وانفتحت ستة أبواب على جانبي الطائرة تدلّت منها مزالق متماسكة تصل الطائرة بالبحر، أشبه بالمزالق الموجودة في حدائق الأطفال.. دقائق وأصبح الركاب في زوارق النجاة.. ونفخت وسائد هوائية على جانبي الطائرة وفي المقدمة والمؤخرة، لتجعل الطائرة طافية على سطح المياه دون أن تغرق..
واتجهت الزوارق نحو الجزيرة القريبة، فيما حاول المهندسون إصلاح أجهزة بث اللاسلكي، للاتصال بالعالم الخارجي وطلب النجدة...
وصل الركاب إلى الجزيرة.. كانت جزيرة غريبة بدت لهم خالية من الحياة، رغم الأشجار والنباتات التي تغطيها.. والطيور التي تسبح في سمائها.. كانت مساحة الجزيرة نحو ألف دونم
ـ أمعقول أن لا يسكنها أحد يا سعد؟
ـ ربما .. لأنها منعزلة وسط المحيط قد لا يجد الإنسان متعة في سكناها..
ـ احتمال منطقي.. ما رأيك لو نتجوّل فيها.؟.
ـ هذا ما يفعله بقية الركاب.. انظري العجوز تقترب منّا.. إنها تشير إلينا..


ـ أريد أن أبقى معك وحيدة يا سعد..
ـ إنها مسكينة تحسّ بالوحدة أيضاً يا لينا.. لا بأس يا حبيبتي إن رغبت بمرافقتنا لن نرفض ذلك..
ـ كما تشاء..
وصلتهما العجوز سألت:
ـ إلى أين تذهبان؟ تريدان التفرج على الجزيرة؟ هه سأرافقكما.. أنا أعرفها جيداً..
ـ تعرفينها؟ هل زرتها من قبل؟
ـ نعم.. زرتها مراراً.. وهاهي الصدفة تجعلني أزورها من جديد تعالا معي هناك أمكنة أريد أن تتعرفا عليها..
همس سعد:
ـ فعلاً يبدو أنها تعرف الجزيرة جيداً..
ساروا في طريق مشجّر متعرّج وسط الصخور وأطلّ عليهم بناء قديم..
ـ هه بدأنا نقترب من المكان..
ـ ما هذا يا خالة، يبدو هيكلاً قديماً..
ـ نعم.. وفي داخله كتابات فينيقية تدل على أن الفينيقيّين وصلوا إلى هنا..
ـ معقول؟ إنه كشف مذهل..
تأمّلوا الهيكل القديم غمغم سعد:
ـ يا إلهي، فعلاً إنه عالم غريب، هذه هي صور بعض الآلهة الفينيقية منحوتة على الجدران..
ـ وانظر هناك يا سعد.. إنها كتابات عربيّة أيضاً..
ـ إنه جدار بكامله عليه سور وآيات قرآنية..
علّقت العجوز:


ـ لقد وصل العرب إلى هنا أيضاً، اقرأ يا بنيّ..
ـ نعم.. نعم.. يا خالة.. هه ((بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما سجّله أحمد بن محمد القيسي الشهير بالمكتشف، أحد الشبان الأغرار الذين انطلقت بهم سفينتهم الشراعية في أواخر القرن الرابع الهجري، من الأندلس المسلمة، من (مالقة) المدينة الجميلة.. عبر البحر المحيط، للوصول إلى الأراضي الجديدة.. وقد آمنوا بأن الأرض كرة يحيط بها غلاف هوائي، ويمكن قطعها في خط واحد عمودي على اتجاه نجم القطب..)) بدأت الكلمات هنا متقطعة..
ـ لقد وصلوا إلى هنا إذن؟ إنه اكتشاف مذهل يا سعد..
ـ لا بد لنا من تسجيل هذا الاكتشاف.. إنه يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الفينيقيين غامروا في المحيط واكتشفوا أمريكا كما غامر الشبان الأغرار المسلمون بعدهم، قبل أكثر من ألف عام للوصول إلى هنا.. ليتني أحمل دفتري وقلمي..
ـ سنعود إلى هنا فيما بعد، لنتابع رحلتنا في اكتشاف أرض الجزيرة .. هيا نخرج من هنا..
ـ إنه جوّ ساحر، غير معقول يا خالة..
تساءلت لينا:
ـ هل سنظل هنا طويلاً؟ ألن تأتي النجدة لإنقاذنا وركاب الطائرة؟
ـ نعم يا حبيبتي سيبحثون عن الطائرة وسيجدونها، وسيرسلون من ينقذنا بالتأكيد..

 

قالت العجوز:
ـ هناك غابة صغيرة هناك، سنرى شيئاً آخر فيها.. هيا اتبعاني..
ـ أنت رائعة يا خالة..
قالت لينا:
ـ ليتني أملك دفتراً وقلماً يا سعد.. ليتني لم أضع الكاميرا في حقيبتي الكبيرة في الشحن..
قالت العجوز:
ـ سنعبر هذا الدغل المتكاثف.. انتبها جيداً، ربما كثرت فيه الثعابين والحشرات الضخمة..
همهمت لينا: ((كأننا نتبعها مبهورين بشخصيتها الغريبة، إنها تقودنا خلفها، دون أن نملك القوة على رفض نداءاتها لنا))
ـ إنها رائعة هذه العجوز الطيبة.. أي سرّ يكمن في شخصيتها الخرافية حتى تكشف لنا كل هذه المعارف المخزونة في ذاكرتها؟
ـ أتصدق أنها رأت ذلك في الحلم.؟.
ـ ربما .. بعض الناس يتفوقون في حاستهم السادسة..
ـ أنا متأكدة أن سرّاً كبيراً يكمن خلف شخصيتها..
لفتت العجوز نظر سعد إلى أفعى من نوع (البوا) شديدة الضخامة والطول، كانت تلتف حول إحدى الأشجار.. اخترقوا الدغل دون أن يلتفتوا إليها شرحت لهم شيئاً عن أفعى (البوا) التي كانت تبدو مثقلة بالضحية التي ابتلعتها..
أطّلوا على الغابة الصغيرة.. قال سعد:
ـ الجوّ بارد هنا..
ـ نعم.. وفي داخل هذا الكوخ، سيزداد البرد..
كان كوخاً من الخشب، مصنوعاً بطريقة متينة بديعة.. .. قالت العجوز:
ـ إنه من صنع الشبان الأغرار يا سعد.
ـ الشبان الأغرار؟ الذين خرجوا من مالقة في اتجاه الأراضي الجديدة. معقول؟ وكيف سنفتحه؟ يبدو محصّناً..
ـ أعرف السرّ، لا تقلقا..
قامت بحركة بسيطة بيدها، فانفتح الباب.. كان البرد شديداً في الداخل وهناك أضواء غامضة تنير المكان، سألها سعد:
ـ من أين يأتي هذا الضوء؟
ـ إنه الفوسفور وضعوه هنا لينير الكوخ من الداخل، لقد طلوا جدرانه جيداً بالفوسفور..

في أحد الأركان كان هناك صندوق خشبي متطاول تساءل سعد:
ـ يبدو أشبه بتابوت..
قالت العجوز:
ـ هو تابوت فعلاً، يمكنك فتحه
كان هناك شخص يتمدد في داخله..
ـ لا تخف إنه ميّت.. رغم أنه يبدو نائماً.. وضعوا مواد حافظة لجثته لينقلوها في طريق العودة إلى غرناطة، موطن هذا الرجل..
ـ هل هو أحد الشبان الأغرار؟
ـ نعم.. إنه أكبرهم سناً..
ـ وكيف تعرفين ذلك؟ من أين استقيت هذه المعلومات؟
ـ منذ أكثر من أربعين عاماً وأنا أداوم المجيء إلى هنا وإلى المكان الآخر قرب نيويورك، لأحل هذا اللغز بالكامل.. أنا الدكتورة (ليلى الحمدان) أخصائية في الانتربولوجيا وتاريخ الأجناس..
ـ الدكتورة ليلى الحمدان؟ سمعت باسمك من قبل.. أنت تشاركين كثيراً في المؤتمرات الدولية
وأكمل سعد:
ـ ولكن كيف تأتين إلى هناك؟ فالجزيرة بعيدة ومنعزلة..
ـ لدي وسائلي الخاصة يا بني.. أنا آسفة لم أر الوقت مناسباً لتعريفكما بنفسي وقد رأيت فيكما عاشقين يحبان بعضهما كل الحب..

 

بدأت الدكتورة ليلى تتحدّث بصوت كان ينفذ إلى أعماقهما بشفافية مدهشة، وهي تفصل ما وصلت إليه من معلومات حول الفتية الأغرار:
ـ غامر الشبان الأغرار بعبور المحيط وكانوا ثمانية عشر شاباً، كان أحمد بن محمد القيسي الذي رأينا كتابته في الهيكل القديم هو أكبرهم..

ـ آه.. نعم.. الذي حكى عن مغامرتهم بالعبور من مالقة Malga إلى هنا..
ـ ويبدو أنه مرض في الطريق، فهبطوا به إلى الجزيرة هنا، وحاولوا إسعافه والعناية به.. وربما كان مصاباً بمرض معد، فعزلوه هنا وكان يتقن الرسم فصوّر ورأسه طافح بالذكريات زوجته الشابة وهو يقطّع وقته.. وكان هذا الرسم الرائع.. الذي يبدو هناك..
قال سعد:
ـ يا إلهي صورة بديعة إنها تشبهك يا لينا..
ثم أردف: ـ ومن أين أتى بالألوان؟ أكانت الألوان متوفرة في ذلك الحين؟
ـ يبدو أنها كانت متوفرة، رغم أننا لا نرى صوراً عن ذلك العصر.. ولكن أحمد بن محمد القيسي ترك لنا هذه اللوحة الرائعة على جدار الكوخ.. ويبدو أن رفاقه حنطوا جثته وغادروا الجزيرة وربما فكروا أنهم سيعودون لاصطحابه إلى الأندلس ودفن جثته هناك.. المهم أنهم أكملوا رحلتهم إلى أمريكا..
ـ وكيف عرفت أنهم نجحوا يا خالة؟
ـ إنها قصة طويلة سأذكرها لكم في حينها.. هيا نذهب الآن لنرى ما حدث مع ركاب الطائرة، وهل استطاع الطاقم الاتصال بالعالم الخارجي لإحضار نجدة؟
غمغم سعد: ـ يا لهذه الجزيرة الساحرة كم هي ملأى بالأسرار..
اتجهوا عائدين صوب الشاطئ قالت العجوز:
ـ أنا أقوم بتأليف كتاب عن الكشف العربي لأمريكا سواء الكشف الفينيقي أو الكشف الإسلامي لها لقد زرت الكثير من المناطق التي تحتفظ بآثار فينيقية ثم آثار إسلامية..
ـ وماذا عن الشبان الأغرار؟
ـ قابلت أحفادهم في أمريكا..
ـ ماذا تقولين؟ قابلت أحفادهم؟
ـ نعم يا بني.. قد يسعدني الحظ وأعرفكم على بعض في نيويورك..
ـ إن شاء الله يا خالة، ستكون سعادتنا كبيرة.. إنه كشف كبير، قد يهز الأوساط الثقافية في العالم..
ـ مع الأسف يا ابنتي، أن حضارتنا مازالت مجهولة، لا أحد يهتم بإظهار إبداعاتها، من الحضارات السورية القديمة، حتى الحضارة العربية الإسلامية.. ليتنا نهتم بهذا التراث الهائل..
ـ أتعلمين يا دكتورة، لم أقرأ في حياتي ـ رغم شغفي بالتاريخ ـ عن هؤلاء الشبان الأغرار، لم يذكرهم المؤرخون أبداً..
ـ بل ذكرهم البعض بأسطر قليلة، فيها سخرية من رحلتهم المجنونة عبر المحيط.. ألم يطلق البعض عليهم لقب (الأغرار)؟ إنه لقب ساخر.. رغم ذلك، حققوا نتائج مدهشة..

كان ركاب الطائرة يتجمعون قرب الشاطئ وقد نصب طاقم الطائرة لهم الخيام.. قالت العجوز معلقة:
ـ لا أحد يعلم ما عدد الأيام التي سنقضيها هنا في انتظار النجدة، أرجو أن يكونوا قد نجحوا في تشغيل جهاز الإرسال من جديد..

 

شعر سعد ولينا بقوة الرابطة التي تشدهما بالدكتورة (ليلى الحمدان) كانت عالماً قائماً بذاته من الموسوعية المعرفية والنبع الإبداعي الغزير..
كانت تعاملهما كولديها، وقد جهزت لهما مكان المبيت، ومن نباتات الجزيرة طبخت لهما عشاء شهياً.. ورغم كل الإرهاق الذي كان يعانيان منه، فقد تأخرا في السهر مع العجوز ولم يصحوا إلا في ساعة متأخرة..
صحا سعد على يد لينا تهزه:
ـ استيقظ إنها العاشرة صباحاً..
ـ آه .. لينا؟ كنت أحلم بك.. يا إلهي كان حلماً جميلاً..
ـ ماذا. حدثني..

ـ كنت ترتدين لباساً عربياً قديماً، وكنت أمشي إلى جانبك في غابة كبيرة، وقد ارتديت أيضاً لباس فارس، حين هاجمنا وحش تصديت له بالسيف وقتلته.. وقد اقتربنا من الدكتورة ليلى، التي كانت تحنّط جثة رجل، لم أتبين وجهه جيداً ولكني لم أشعر بالخوف من الجثة.. وأنت تستندين على ذراعي.. ثم سمعت صوت موسيقا عذبة.. انقطعت فجأة بموسيقا صوتك الرخيم يا حبيبتي..
ـ هيا انهض واغسل وجهك من النبع المجاور.. نحن محظوظون بالهبوط قرب هذه الجزيرة..
ـ اسمعي يا لينا، سألت نفسي كثيراً، كيف تمكنت الدكتورة ليلى من اكتشاف الهيكل والكوخ؟ وكيف أتت إلى هنا من قبل؟
ـ وأنا دار نفس السؤال في ذهني.. لم لا نسأل الدكتورة ليلى يا سعد؟
ـ في ذهني تساؤلات كثيرة أتمنى من الدكتورة ليلى أن تجيبني عليها..
ـ اذهب الآن واغسل وجهك.. سأحضر الإفطار وأدعو الدكتورة ليلى..
ـ حسناً..
وتناولت العجوز طعام الإفطار معهما ثم تجمعوا يشربون الشاي في فسحة عالية تطل على البحر:
ـ قضيت أربعين عاماً وأنا أعمل في هذه المسألة.. لحلّ ألغازها الكثيرة.. ولدى تتبعي لملاحظات الملاحين القدامى توصلت إلى نتيجة أن سفينة الشبان الأغرار لا بد وأنها انحرفت نتيجة لتيارات المحيط الأطلسي المتجهة غالباً نحو الجنوب الغربي.. إلى شواطئ البرازيل..
ـ وشواطئ الأرجنتين؟
ـ نعم.. ولكن بدراستي الدقيقية لتلك الشواطئ لم أجد آثاراً تدل على وصول الشبان الأغرار إليها.. قلت لنفسي لا بد وأنهم وصلوا جزيرة في المحيط، استقروا فيها لفترة، ثم تابعوا طريقهم.. وبدأت عندهم بزيارة جزر المحيط، من جزر الكناري والرأس الأخضر إلى جزر البهاما إلى ما يعرف بجزر الهند الغربية وغيرها من الجزر فلم أجد أيضاً آثاراً هناك.. ثم لفتت هذه الجزيرة انتباهي..
ـ كيف؟ قمت بزيارتها؟
ـ لفتت انتباهي على الخارطة في الأطلس العالمي، جزيرة صغيرة منعزلة يتطابق مكانها مع حساباتي للتيارات البحرية.. ثم قمت بزيارتها، بعد أن موّل رحلتي أحد الأثرياء العرب من المهاجرين الذين استوطنوا (فنزويلا) وقد طرب لفكرتي بعد حديثي المطوّل عن الشبان الأغرار..
ـ وجئت إلى هنا؟
ـ نعم.. وصلت الهيكل والكوخ.. ونجحت رحلتي نجاحاً كبيراً، وقد طلب مني الثري أن أتريث في الإعلان عن اكتشافي حتى إتمام البحث والتعرف على آثار الشبان الأغرار في الأرض الجديدة..
وتعرفت على هذه الآثار؟
ـ نعم يا بني.. إنها على الشاطئ المكسيكي.. تعرفت على بعض أحفاد الشبان الأغرار الذين ـ كما ظهر لي ـ وصلوا الشاطئ المكسيكي وتعرفوا على الهنود الحمر، وتزوجوا منهم، ويبدو أنهم عقدوا صداقات قوية معهم.. وما أزال أعمل في هذا الاتجاه، وقد أخذت أتابع آثارهم، حتى تأكد لي أن أحدهم يعيش في نيويورك نفسها وأنا أقوم برحلتي الآن للقائه..
ـ وأين يتركز عملك الآن؟ ألا تدرسين في جامعة من الجامعات؟
ـ درست في السوربون، مدة أربع سنوات، ثم في جامعة (جورج تاون) كأستاذة زائرة، لعام واحد، ثم في جامعة (مونتبليه Montpelier) في جنوب فرنسا، وعملت في مركز الأبحاث في واشنطن، في قسم الدراسات الشرقية.. وأنا الآن متفرغة للبحث الذي أقوم به عن الكشف الفينيقي العربي لأمريكا..
ـ لا تعلمين كم أنا سعيد، ولينا أيضاً، بالتعرف عليك، أنت أنموذج ممتاز للمرأة العربية النابغة..
ـ لا تبالغ يا بني .. أنا إنسانة عادية، فشلت في تكوين أسرة، فتفرغت للعلم، هذا منطقي، لو كان لدي أولاد لما كان لدي وقت لهذه الاكتشافات..
ـ معك حق.. ولكن يا دكتورة، لم قلت لنا إنك رأيتنا في الحلم.؟
ـ صدقني يا بني لقد رأيتك ورأيت لينا في الحلم، بل ورأيت أن الطائرة ستتعطل بنا قرب الجزيرة.. إنها أحلام تنبؤية تراودني أحياناً.. هذا ليس غريباً.. إنه يدخل ضمن مجال التخاطر والحاسة السادسة..
أكدت لينا:
ـ نعم.. نعم.. أنا مقتنعة بذلك..
ـ اسمحا لي الآن، سأدخل خيمتي لأستريح قليلاً.. إذا رغبتما بمرافقتي بعد الظهر إلى الجزيرة، سأكون سعيدة..
ـ بالطبع سنرافقك، فرصة كبيرة لنا أن نتمتع بمعارفك الواسعة يا دكتورة..
ـ شكراً لك يا بني..
قالت لينا بحب:
ـ أتعلم بدأت أتعلق بها يا سعد..
ـ وأنا يا لينا..

 

جلسا طويلاً يتحادثان وقد تشابكت أصابعهما:
ـ سبحان الله ما أغرب هذه الأيام التي نقضيها الآن.. هه لم تقولي لي أين تقيمين في نيويورك؟
ـ في بيت صغير لا يبعد كثيراً عن وكالتي الصحافية.. أنا جديدة هناك، منذ نحو العام فقط..
ـ يقال إن (نيويورك) مرعبة في الليل..
ـ بالنسبة إلي لا أخرج في الليل، رغم وجود بعض الأصدقاء العرب مع أسرهم هناك.. وهم يحاولون دعوتي لزيارتهم، ولم ألب دعوة أي منهم حتى الآن..
ـ سيختلف الوضع الآن.. إن حصلت على عمل، كما أتمنى، سنكون ثنائياً سعيداً..
ـ ماذا تقصد يا سعد؟
ـ أقصد أننا سنتزوج.. أنا متأكد أن الحصول على عمل ليس صعباً بالنسبة لي، خاصة وأنني أحمل اختصاصاً علمياً نادراً..
ـ أنت مهاجر بشكل رسمي عبر السفارة الأمريكية؟

ـ نعم.. السفارة التي في بيروت، ومعي عقد عمل في مركز البحوث في نيويورك ولكنهم لم يحددوا لي الراتب، ولا نوع العمل الذي سأستلمه، لذلك لست متفائلاً بالعمل في هذا المركز..
ـ ماذا تقول؟ لن يتركوا سبيلاً لك للتسرب منهم.. لم يحددوا الراتب لأنّهم لم يقابلوك بعد، ويختبروا كفاءتك، هذا أمر طبيعي ولكنني متأكدة أنك ستحصل على راتب ممتاز حين تبدأ عملك معهم..
ـ إلى هذه الدرجة أنت متأكدة؟
ـ بالطبع.. أنت كفاءة نادرة يا سعد..
ـ لم تقولي لي.. ما رأيك بفكرتي.. أن نتزوج حالما نصل نيويورك.. أو حالما أحصل على عمل مناسب.؟
ـ هل أنت جاد فيما تقوله؟
ـ بالطبع.. ولن أترك لك فرصة للرفض، كما فعلت من قبل.. أتعلمين يا لينا؟ لم يفارقني خيالك أبداً، رغم إحساسي بالمرارة من لقائنا الأخير..
ـ أرجوك يا سعد انسَ ذلك.. لا تعذبني..
ـ أنا آسف يا حبيبتي.. هه.. أتوافقين على الزواج مني؟
ـ ولكن..
سمعا صوت العجوز الصارخ:
ـ ولكن ماذا يا ابنتي؟ بالطبع هي موافقة يا سعد.. اعتقدتكما زوجين في البداية.. هه.. هذا الحب الكبير يجب أن ينتهي برابطة لا تنفصم.. أنا مثل أمك يا لينا.. سعد رجل نادر يا ابنتي..
ـ أنا لا استحقه يا خالتي..
ـ ماذا تقولين؟ ربما ارتكبت بعض الأخطاء معه ولكنه يسامحك، وهو يصر على طلبه بالزواج.. سعد..
ـ نعم يا دكتورة..
ـ قبل عروسك يا بني.. ليتني أستطيع أن أزغرد.. ولكن سأقيم لكما احتفالاً كبيراً في نيويورك
ـ أنت؟
ـ نعم.. إنه احتفال بزواج ولديّ..
اندفعت لينا تبكي على صدرها:
ـ آه.. يا أمي العزيزة..
ـ إنه أجمل نداء اسمعه يا ابنتي، سأكون أمك دوماً..
ـ لي الشرف أن تكون أمي..
ـ لا تقولي مثل هذا الكلام يا ابنتي.. أصبحنا أسرة واحدة، متآلفة وسط ظروف ـ رغم صعوبتها ـ قربتنا من بعضنا لدرجة تفوق الوصف.. أليس كذلك يا سعد؟
رددا معاً: ـ معك حق..

 

بعد يوم آخر تمكن الفنيون من إصلاح جهاز الإرسال وبثت الطائرة عدة رسائل استغاثة، التقطتها محطات الراديو، وبعض المطارات الموازية للساحل الشرقي للأمريكتين.. وبعد عشرة أيام وصلت باخرة ركاب ضخمة، مزودة بطاقم طبي كامل، ولجنة فنية فحصت الطائرة الرابضة فوق المحيط..
وصعد الركاب إلى الباخرة، ولم يبق سوى أفراد طاقم الطائرة، الذين ظلّوا ينتظرون سفينة شحن تقطر طائرتهم إلى أقرب مرفأً، لنقلها إلى أحد المطارات لإصلاحها تمهيداً لعودتها للعمل..
أفرغت الطائرة حمولتها من حقائب الركاب وحوائجهم، وقد أصاب البلل بعضها، ومن بينها حقائب سعد ولينا والدكتورة ليلى..
كانت الدكتورة ليلى سعيدة، من أن مخطوطاتها التي وضعتها في حقيبتها الضخمة، لم يصبها البلل، وهكذا أخرجتها لتريها لسعد ولينا اللذين أقبلا على قراءتها بشغف والباخرة تقطع بهم عرض المحيط في طريقها إلى نيويورك.
كان أحد المخطوطات يتحدث عن التفوق البحري للفينيقيين، وقدرتهم على عبور المحيط والوصول إلى الأراضي الجديدة، وتركوا آثاراً اكتشفتها الدكتورة ليلى على طول الشاطئ المكسيكي، وفي جزر البحر الكاريبي..
ـ أما هذا المخطوط يا سعد فيتحدث عن الشبّان الأغرار..
ـ قصتهم غريبة أيضاً..
ـ نعم.. إنهم ثمانية عشر شاباً تربطهم ببعضهم صلات قربى.. وأبناء عمومة وأبناء خالات وأخوال صمّموا على الرحيل عبر المحيط للوصول إلى الطرف الآخر من اليابسة.. لأنهم كانوا مقتنعين أن الأرض أشبه بكرة.. بعض المؤرخين ذكروا أنهم ذهبوا من برشلونة على البحر المتوسط في القرن الثالث الهجري، ولكن هذا غير منطقي..
ـ لماذا؟
ـ لأن برشلونة في القرن الثالث الهجري لم تكن في يد المسلمين، ولعل أقرب الروايات إلى الصحة هي التي تقول إنهم عبروا من مالقة على البحر المتوسط وقطعوا مضيق جبل طارق إلى المحيط.. في عهد عبد الرحمن الناصر الذي استمر من عام (300) للهجرة إلى (350) للهجرة..
ـ أي في أواخر القرن الرابع الهجري، الحادي عشر الميلادي..
ـ نعم.. ومالقة مدينة جميلة لا تبعد كثيراً عن مضيق جبل طارق أو عن المحيط، وظلّت بيد المسلمين حتى رحيلهم عن الأندلس..
ـ وتعرفت على آثارهم، وتابعتها بدقة؟
ـ نعم.. وقد لاحظتما ما كتبه محمد بن أحمد القيسي أكبر هؤلاء الشبّان عن رحلتهم عبر المحيط، رغم أنني شبه متأكدة أنه يتحدث عن انطلاقه من (مالقة) ـ الكلمة ليست واضحة كثيراً وقد قرأتها برشلونة لأول وهلة ـ ولاحظت يا سعد كيف أنه في زيارتنا الثانية تأكدت من أنه يقصد مالقة وليس برشلونة..
قال:
ـ نعم.. وأتذكر أنه سجل يقول: ((هذا ما سجله أحمد بن محمد القيسي الشهير بالمكتشف أحد الشبّان الأغرار الذين انطلقت بهم سفينتهم الشراعية في أواخر القرن الثالث الهجري..)).
ـ بل أواخر الرابع الهجري، لقد وصلت تلك الكلمة المقطعة فظهرت الرابع وليس الثالث.. انظر


ـ آه صحيح. والمدينة التي انطلقوا منها هي مالقة..
ـ أتعلم أنا سعيدة لأن ما وصلت إليه من معلومات الآن قد تطابقت مع نظريتي، من أن الشبّان الأغرار غامروا بالرحيل أيام عبد الرحمن الناصر، لأن عصره كان عصر ازدهار واستقرار في الأندلس.. وهذا يتطابق مع أقوال بعض المؤرخين أيضاً..
ـ نحن نقترب من الشاطئ..
ـ الحمد لله، أشرفت رحلتنا على النهاية.. كم أنا سعيدة بكما يا ولدي..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites