(داخل نفق الزمن)

 



 

فوجئ سعد أن ورقاء تعرف الدكتورة ليلى الحمدان، وأن لديها معلومات جديدة عنها.
وتمنى لو يستطيع أن يحتفظ بصورة عن المخطوطة.. التي أدهشته بتفاصيلها عن رحلة الفتية الأغرار من الأندلس نحو الأرض الجديدة..
ـ لم تقولي يا خالة. ما الذي جعل حفيدك سالم يسارع للخلاص من المخطوطة؟
ـ هو يعمل في الشرطة السريّة، ويرى دوريات التفتيش التي تفتش دور الناس وممتلكاتهم بحثاً عن أدلةّ تتوهمها بارتباط من تفتش دورهم بهجمات الحادي عشر من أيلول...
قالت فاطمة: ـ كما حدث لعمي إبراهيم المعتقل للتحقيق، بسبب علاقاته الكبيرة مع العرب ..
ـ وهذا ما جعل سالم يخاف من وجود هذه المخطوطة المكتوبة بالعربيّة... وقد حاول إقناعي بالتخلص منها، ولكني تذكرت كلمة للدكتورة ليلى الحمدان، من أن هذه المخطوطة (جزء هام من شخصية عائلتي)
سألها سعد: ـ اسمك غريب، وغير مألوف هنا.؟.
ـ أطلقه عليّ والدي تيمناً بجدتي البعيدة ابنة (سليمان بن الحارث الطائي) أحد الفتية الأغرار الذين أتوا هنا قبل ألف عام....
 ـ إنها معلومة جديدة، أضافتها الدكتورة ليلى لوثائقها..
ـ بل لديها صورة طبق الأصل من هذه المخطوطة.. الدكتورة ليلى سيدة لا أستطيع أن أصف ذكاءها وتهذيبها وحبها لنا.. كنا نرى فيها الماضي المتألق الذي عاشه أجدادنا مع قبائلنا المنتشرة على الساحل الشرقي لهذه البلاد...
ـ ألا تتردّد عليك أحياناً؟
- منذ أكثر من عامين لم نرها ولم نسمع أخبارها.. أنا لا أعيش حياة طبيعيّة منذ اختفائها الغريب.. أعاني الأرق والقلق، والخوف.. وأتوقع دوماً أن أسمع خبراً سيئاً عنها.. لا تتصوّر يا بني كم هي كبيرة وقريبة إلى قلبي.. لقد حوّلت حياتنا إلى حياة لها معنى..
ـ كنت تقابلينها كثيراً؟
ـ كما قلت لك، لقد حولت حياتنا إلى حياة لها معنى.. أصبحنا نرى أننا، نحن الذين نشكل جزءاً هاماً من الهنود الحمر، لنا تاريخ، لنا حضارة متميّزة، لقد عرفتنا على بصمات الحضارة القديمة لدى قومنا، هنا، وأكدّت لنا أن جدي سليمان حين أتى إلى هنا مع رفاقه، اكتشف  الكثير من حضارتنا القديمة، وأضاف إليها الكثير من إنجازات العرب المسلمين الذين ارتبطوا بنا، وتزاوجوا معنا..
ـ كل هذه من ثمانية عشر شاباً فقط، ركبوا البحر ووصلوا هنا وفعلوا كل هذا التغيّر؟
ـ ربما لم يكن عددهم ثمانية عشر فقط، صحيح أن الذين كانوا مسؤولين عن الرحلة ودفع تكاليفها وقيادتها هم هؤلاء الفتية الأغرار، ولكن ربما كان يرافقهم بحارّة متمرسون ساعدوهم في قطع المحيط..
علق سعد: ـ من لشبونة أم من مالقة؟ الذي أذكره أن الدكتورة ليلى أكدّت أنهم انطلقوا من مالقة على البحر المتوسط..
قالت ورقاء: ـ ربَّما بنيت السفينة وجهزت في مالقة، وانتقلت إلى لشبونة على المحيط لتجميع البحارة والعاملين فيها من كل أنحاء الأندلس.. قبل إقلاعها من لشبونة؟
سألها: ـ أنا آسف يا خالة قلت إنك تعانين الأرق والخوف منذ اختفاء الدكتورة ليلى؟
ـ نعم.. اعتقدت في البداية أن اختفاءها بسبب السفر والبحث عن أدلّة ومصادر جديدة.. ولكن بعد عدة أشهر بدأنا نتلقّى اتصالات غريبة في منزلنا..

ـ اتصالات غريبة؟
ـ نعم.. كان رجلاً أجش الصوت لئيم النبرة. يقهقه في الهاتف وهو يسمعنا صوته الكريه؟
***
ـ تريدون أن تستعيدوا الذاكرة.؟.. لن تهنؤوا بذلك سترون منّا الويل أيها الحمقى..
ـ من المتكلم؟ من تريد؟ أنت مخطئ بالرقم...
ـ لا لست مخطئاً بالرقم.. ليلى التي تشحنكم لن تروها ثانية.. لن تروها ثانية..
وكان يقفل السماعة مقهقهاً بغلظة..
***
ـ أعاد الكرّة عدة مرّات ينفس قهقهته الكريهة.. لا أنكر يا بني أنني بدأت أشعر بالتوتر والقلق، وخاصة على الدكتورة ليلى...
قال سعد: ـ يبدو أن الدكتورة ليلى ملاحقة من جهات يهمها أن لا يظهر بحثها الموثّق إلى الوجود..
همست لينا: ـ أتعلم يا سعد، كنا مقصرين بشكل كبير بحقها؟
تنهدت ورقاء: ـ أنا آسفة يا ابنتي. سمعت كلامك.. كلنا نشعر بالتقصير.. ليلى إنسانة نادرة في زمن، عزّ فيه وجود امرأة تحمل راية البحث في جذور أمتها، لتظهر للوجود حقائق جديدة غائبة بشكل آخر عن العالم..
ـ أيمكن أن أطلع على المخطوطة يا خالة؟ أن أقلب صفحاتها هنا؟
ـ لا بأس يا بني، إنها مليئة بالرسوم والمخططات.. رسوم أقسام سفينة كبيرة، جميلة المنظر من الخارج.. كانت السفينة التي بدأوا ببنائها، وكان جدّي أحد مصمميها، معتمداً على خبرات أجدادي من الهنود الحمر..
***
ـ إنه يبدأ بالصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم.. هل أستطيع القراءة؟
ـ نعم ولا بأس لو رفعت صوتك.. سنصغي إليك جميعنا..
سألتها لينا: ـ أتعرفين العربيّة جيداً يا خالة؟
ـ إنها جزء من شخصيتي، رغم أنني لا أتقنها كما تتقنيها أنت وزوجك.. نحن نتكلمها فيما بيننا فقط.. وبناء على نصائح أبي وجدّي، نحن لا نتكلمها مع العرب الوافدين إلينا، إلا إذا وصلت ثقتنا بهم إلى حدّ كبير، كما هو الحال مع الدكتورة ليلى..
ـ وما هو السبب؟...
قالت فاطمة: ـ أنا سأجيبك عن ذلك يا سيدة لينا، السبب هو أن بعض العرب هنا قد يستبد بهم الفضول لدراسة أسباب معرفتنا بالعربيّة، وقد ينقلون هذه الأحاسيس والأسباب إلى المسؤولين عنهم في الدولة الأمريكية إظهاراً للولاء المبالغ به للدولة، خوف الترحيل أو غيره..
وأكدت ورقاء: ـ هذا صحيح.. ولأحد أجدادنا واسمه حمدان تجربة مريرة في ذلك.. عذراً سأحكيها لكم.. قبل أن تبدأ بقراءة المخطوطة يا دكتور سعد..
ـ لا بأس يا خالة..

 

ـ مع تدفق المهاجرين العرب إلى هنا أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر.. قابل جدّي حمدان أحدهم وكان سعيدا ًبإظهار نفسه أنه يتكلم العربية جيداً.. وكان هذا الوافد يحمل اسم (أيهم)..
ـ أنا سعيد بلقائك يا أيهم..
ـ تتكلم العربية جيداً، من أين تعلمتها؟ الذي أعرفه أنّ لا معاهد لتعليمها هنا..
ـ من أجدادي، نحن نتوارث تعلمها منذ أمد طويل.. ربَّما منذ أكثر من
(800) سنة..
ـ ماذا تقول؟
ـ نعم.. أتى العرب إلى هنا وعاشوا بيننا وتزوجوا من بناتنا.. وعلمونا ثقافتهم..
ـ هذا غريب.. لماذا لا يعرف العالم هذه المعلومة؟
ـ لا نريد ذلك. لأنَّ الأذى قد يصيبنا، ألا ترى تماثيل (كريستوفر كولمبس) في كل مكان؟
إنه رمز هذه الدولة..
ـ ولكنها بلاد حرّة قد تقبل الأفكار الجديدة؟
ـ ليس إلى هذه الدرجة..
ـ غريب أن تتكلموا عن توارث تعلم العربيّة إلى هذا الوقت؟
ـ ولماذا تقول ذلك؟ نحن لم نتوارث تعلم اللغة فقط، وإنما لدينا وثائق ومخطوطات تؤكد على أننا ننتمي بجذورنا إلى العرب، وبالتحديد إلى الفتية الذين أطلق عليهم لقب (الفتية الأغرار)..
ـ لديكم وثائق على ذلك؟ هذا جميل.. أيمكنك أن تريني بعضها.؟.
ـ لا بأس.. تأملها وادرسها هنا، لا يمكن أن نتركها معك..
ـ سأستعيرها ليوم فقط.. سأعيده إليك غداً..
قال جدي حمدان متردداً: ـ ولكنّ هذا يخالف وصية جدي، أوصانا أن لا نعيرها لأحد.. إنها جزء من تراثنا.. لا بأس أنت عربي، وستحافظ عليها جيداً..
ـ نعم.. نعم.. تأكد من ذلك، غداً في مثل هذا الوقت سأحضرها لك..
***
وأكملت ورقاء حكايتها:
ـ ولكن ذلك الرجل لم يعد المخطوطة، بالعكس لقد باعها لأحد التجار اليهود بمبلغ كبير، واختفى عن الأنظار.. وحين حاول جدّي استعادتها من ذلك التاجر بعدما عرض عليه ضعف المبلغ.. نظر التاجر إليه نظرة شماتة..
ـ أتريد أن تستعيدها؟ لا بأس.. ولكن أعطني المخطوطات الأخرى التي في حوزتك.. وسأشتريها بمبلغ كبير، وأعطيك أضعاف أضعاف ما تتأمله..
ـ ليس عندي سواها.. وهي ليست للبيع، أمنّت ذلك الرجل عليها فباعها لك..
ـ متأكد أنه ليس لديك سواها؟
ـ نعم.. أرجوك أعدها لي وخذ ما شئت..
ـ إلى هذه الدرجة هي غالية عليك؟
ـ نعم.. إنها جزء من تراث أجدادي..
قال التاجر بسخرية: ـ جزء من تراث أجدادك؟ أنت هندي أحمر ما علاقتك بالعرب؟ هل صدقت فعلاً أنهم وصلوا إلى هنا قبل كولمبس؟
ـ نعم.. المخطوطة تؤكد ذلك..
ـ فقط هذه المخطوطة تحمل البرهان على ذلك؟ إذن سأحرقها أمامك..
انفجر جدي صارخاً: ـ لا.. لا.. أرجوك.. ماذا تفعل؟
صرخ ينادي خدمه: ـ أبعدوه من هنا، ولا تجعلوه يقترب منّي..
ـ أرجوك لا تفعل ذلك.. هذا عمل إجرامي.. أنت تقتل تاريخنا..
ـ أنتم شعب بلا تاريخ، أحسنوا صنعاً بإبادتكم..
ـ يا إلهي ماذا فعلت؟ كيف أعطيت ذلك الوغد تلك المخطوطة؟
***
وأكملت ورقاء:
ـ ومنذ ذلك الحين، لم نعد نطمئن إلى من يفد إلينا ويناقشنا في انتمائنا إلى عرب الأندلس..
ـ عمل إجرامي كبير.. كيف فعلها ذلك المدعو أيهم؟
ـ ربَّما كان بحاجة للمال..
ـ ولكن الحاجة للمال لا تبرّر مثل هذا العمل الإجرامي.. هل كانت المخطوطة مهمة كهذه التي بين يدي؟
ـ ربَّما كانت أكثر أهمية.. كانت مذكرات ويوميات جدّي سليمان.. وهذه ليست ذكرياته ويومياته.. إنها تتحدّث عن صناعة سفينة.. وتروي أحداثاً قليلة عن معارك خاضها جدّي مع ساحر القبيلة وأحد الفرسان الذين يؤيدونه. وقصة إحدى رحلاته لاستكشاف تراث أجدادنا من الهنود الحمر..
ـ يمكنك البدء بالقراءة يا سعد..
ـ لا بأس..

 

((هذا ما خطّه سليمان بن الحارث الطائي أحد الفتيّة الأغرار، الذي استقرّ ورفاقه بين أفراد هذه القبيلة التي استقبلتنا وفتحت لنا بيوتها وأكواخها، رغم أنف كاهنها وبعض الرجال الملتفين حوله..))
***
أنهيت مخططات السفينة بدقّة، وبدأ الرجال يستعدون للبدء ببنائها، كانت سفننا التي أوصلتنا إلى هنا قد هوجمت من بعض رجال الكاهن حيث فتحوا فيها ثغرات كثيرة وأغرقوها، ونحن على الشاطئ دون أن ننتبه.. رغم أنني حذّرت الرجال من تركها دون حراسة..كان أحمد قد وقع في غرام (ديبا) ابنة زعيم القبيلة.. أصدقكم القول أن الفتيات هنا جميلات بل وفاتنات، يتعلقن بأزواجهن تعلقاً كبيراً وتظهر العاشقة عشقها لحبيبها ببساطة، وهي تخلص له.. وقد قالت لي إحدى العجائز هنا عن تلك الظاهرة..
((نحن يا بني يا سليمان، بمحبتنا وإخلاصنا، نجبر الرجال على مبادلتنا الإخلاص والوفاء.. من الصعب أن تجد رجلاً غير مخلص لزوجته أو لحبيبته، بسبب إخلاص النساء عامة هنا للرجال بلا استثناء. المرأة هنا محترمة، يقدرها الجميع، ولا يقرب الرجل امرأته في فترة حملها أو رضاعتها إنها عادة اعتدناها منذ سنوات بعيدة، إنها جزء من تراثنا..))
ـ في كل قبائل الهنود الحمر؟
((نعم يا بني.. نحن نملك حضارات قديمة باهرة، لا تزال آثارها في أمكنة عديدة من هذه البلدان الواسعة.. دعاكم الزعيم أكثر من مرّة لمرافقته في رحلاته الطويلة، وهو يتفقد قرانا البعيدة ومناطق سكنانا.. قبيلتنا الكبيرة جداً تنتشر في الجبال والأودية وعلى ضفاف الأنهار.. ولعلك لاحظت قدرتنا الكبيرة على علاج المرضى بالأعشاب..))
ـ نعم.. نعم يا خالة..
(( رغم أن طبيبكم (أبا الخير الإشبيلي) قد عالج مرضى عندنا كانت علاتهم ميئوسة.. ألن تذهبوا مع الزعيم في إحدى رحلاته؟))
ـ سنتشاور في ذلك مع بعضنا، ربَّما هذا المساء..
((أنتم تزمعون بناء سفينة كبيرة، شددوا الحراسة على الشاطئ حين تبدأون البناء، لست مطمئنة إلى الكاهن وذلك الوغد (راكان)..))
- نعم.. سنفعل ذلك يا خالة.. شكراً لك..
((أنتم دخلتم بيننا بالحب والتعاون، تعرفنا على مبادئكم ومعتقداتكم، وآمنا بها.. فلا تكترثوا بهذه الجماعة الضالة التي تهمها مصالحها الخاصة، واعتقدت أنكم ضربتم هذه المصالح في الصميم.. اسمع يا بني، حاول جهدك وبعض أصدقائك مرافقة الزعيم في رحلته المقبلة، لن تستمر طويلاً، عدة أيام فقط، ستستفيدون كثيراً من ذلك..))
***
كان العمل يجري للتحضير لتنفيذ المخططات التي رسمتها للسفينة، وحاولت أن أشرف على تجميع أجزائها من الخشب والحبال والمواد المعدنية.. وكنت أفكر جديّاً بتلك الرحلة مع الزعيم التي أخبرتني عنها العجوز.. وقد استشرت أصدقائي أحمد وأبي الخير وعبد الرحمن. ولم يرفضوا الفكرة، ولكنهم أكدوا أن مرافقة الزعيم ستكون مفيدة إذا ذهب معه أحدنا فقط، برفقة من يريد من البحارة وعرفوا أنني أرغب في ذلك، فوافقوا أن أذهب واصطحب معي بحارين من بحارتنا على الأقل.. وهكذا ذهبت لمقابلة زعيم القبيلة..
ـ أنا سعيد بوصولك إلى هذا القرار يا سليمان، ستتعرف على تراث أمتنا ومواطن إقامة أفراد قبائلها، وإن كنت أتمنى لو ترافقني في رحلات أطول من هذه الرحلة..
ـ ربَّما كانت هذه الرحلة هي نقطة البداية عندي..
ـ حسناً، وستصطحب معك بعض رجالك؟
ـ سأصطحب اثنين فقط.. قد يساعدانني كثيراً..
ـ لا بأس.. جهزوا الأشياء الضرورية لكم سننطلق عند الفجر في الصباح..
ـ سأكون جاهزاً بعون الله..

 

ودعت أصدقائي. واصطحبت (تامر وهايل) لمساعدتي.. وقد اصطحب الزعيم معه بعض الفرسان وبعض النساء والفتيات للإشراف على الغسيل والطبخ.. وانطلقنا من الشاطئ غرباً صوت الجبال، مستخدمين الخيول والبغال، وتوقفنا في مساء ذلك اليوم قرب قرية تنتشر أكواخها على سفح جبل عال.. وقد لفت انتباهي وجود بناء حجري ضخم فوق قمة الجبل..
سألت الزعيم عنه فأجابني:
ـ إنه قلعة تارا، قلعة قديمة فيها الكثير من الأسرار، لا يجرؤ أحد على دخولها، يقال إن الأرواح والأشباح تسكن داخلها..
ـ ولم تفكر ورجالك بدخولها؟
ـ نحن شعب يؤمن بالأسطورة يا سليمان، وربما كان مجيئكم إلينا سبباً في التفكير بكشف الحقائق، وتمييزها عن الأوهام والخرافات، بعد أن تعلمنا منكم دروساً في التفكير الواقعي.. ولكن كما تعلم، هناك الكثير من أسرار الإنسان الغامضة، لا يستطيع الدخول إليها وكشفها، لعجزه عن ذلك..
ـ معك حق. ولكن أرغب فعلاً بدخول قلعة (تارا) ربَّما لكشف حقيقة أسرارها إن استطعت.. هل هي مكن مقدس بالنسبة لسكان القرية هنا؟
ـ أعتقد ذلك، وإن كنت أخمّن أنهم لا يمانعون أن يجرب أحد الدخول إليها ولكن بالمقابل، لن يقدموا له أي عون..
ـ هذا لا يهم.. قد أدخل أنا وتامر وهايل فقط..
قالت كالا مندفعة:
ـ وأنا سأرافقهم يا عمي..
ـ كالا؟ أنت؟ لا يا ابنتي، أنت أمانة في عنقي بعد وفاة والدك.. لا أستطيع أن أسمح لك.. أهلها الذين جرفهم السيل كانوا أهلي، كالا مثل ابنتي، عاشت معنا..
همست: ـ تبدو قوية جريئة.. ما المانع؟
ـ هي فعلاً قويّة وجريئة بل وتعرف استخدام السيف والرمح والقوس. ولكنها في مقام ابنتي، لا أستطيع السماح لها بمرافقتك.. إن كنت مصمماً على دخول تارا..
ـ نعم.. أنا مصمم على دخول القلعة..
عادت كالا تلحّ:- عمي.. أرجوك.. اسمح لي بمرافقته..
ـ وأعدك أن أحميها من الخطر حتّى ولو قدمت حياتي قرباناً ذلك..
قال الزعيم: ـ أرجوك يا سليمان اعتن بها جيداً..
واستمر سعد يقرأ من المخطوطة التي كانت (ورقاء) تستمع إليها بشغف، وروى بعضاً من تفاصيل رحلة سليمان إلى القلعة.. وذهول أهالي القرية من المغامرة بدخول موطن الأرواح والأشباح والمخلوقات الخفيّة كما كانوا يسمونها..
ـ إنه يروي قصة دخوله القلعة بتفصيل مدهش..
ـ أرجوك استمر بالقراءة يا سعد..
ـ حسناً يالينا..
***
(( كان دخولنا حدثاً كبيراً في عرف الأهالي هنا..))
ـ اسمعي يا كالا.. بعد جهد جهيد أقنعت الزعيم بأن يسمح لك بالانضمام إلينا أريد منك أن تلتزمي بتعليماتي بالحرف.. إنها قلعة ضخمة فيها مخابئ..
ـ لا عليك يا سليمان، سألتزم بتعليماتك..
وبذلنا جهداً كبيراً في فتح الباب الضخم..
صرخت كالا: ـ الباب ينغلق علينا..
ـ لا تخافي سنعرف كيف نفتحه حين نعود.. سنمشي معاً أنا وكالا في الأمام، وأنت يا تامر ستكون خلفنا وهايل، مباشرة..
ـ نعم يا سيدي..
كانت هناك ساحة ضخمة فيها مقاعد حجرية بشكل متدرج.. كأنها مكان لتجميع الناس..
وانبعثت أصوات طيور وزعيق حيوانات..
قالت كالا: ـ أتسمع؟ بدأت الأرواح تتحرك..
ـ ليست أرواحاً، ربَّما كان لها تفسير آخر.. الطيور؟ فوقنا أسراب من الطيور.. وهناك حيوانات تقفز حولنا.. هي ليست وهما..
قال هايل: ـ ما رأيك يا سيدي لو ندخل هذا الباب الواسع هنا، إنه مفتوح وقد وضعت حجارة كبيرة أمام دفتيه الضخمتين.
قلت: ـ لا بأس يا هايل.. لنبدأ باستكشاف المكان خلفه..
كانت هناك درجات هابطة أمامنا.. أخذنا نهبطها بحذر.. وكانت كالا إلى جانبي..
ـ أمامنا ما يشبه النفق..
ـ لا بأس يا تامر. سنحاول الدخول فيه، استعد وهايل لإشعال المشاعل.. قد يكون الداخل مظلماً..
كان الضوء ضعيفاً.. بدا النفق في الداخل مظلم تماماً..
ـ لا بأس.. لنمض في الداخل بحذر شديد.. الجدران منقوشة بعبارات من لغة تشبه لغتكم يا كالا..
ـ إنها إحدى لغاتنا القديمة، لا أستطيع قراءتها جيداً.. ولكنها تحكي بشكل عام عن شخص يدعى (مردوك)..
ـ مردوك؟ إنه أحد آلهة الفينيقيين.. معقول؟
وبدأت تظهر بعض التمائيل.. على طرفي الطريق.. بدا النفق ضخماً وربما كانت الخيول تمر من خلاله وعلى ظهورها الفرسان.. كأننا في سبيل اكتشاف ضخم.. وانبعثت أصوات حيوانات شبيهة بالجرذان.. تندفع نحونا.
ـ لا تخافوا إن هاجمتنا سنستخدم أسلحتنا..
ـ إنها تتجه نحونا.. إنها تهاجمنا يا سيدي..
ـ استخدموا أسلحتكم وأنت يا كالا لا تخافي منها..
ـ لا تقلق يا سليمان.. هه ذيولها قوية إنها تستخدمها كسلاح أيضاً عدا عن أنيابها.. هه..
ـ قتلنا منها الكثير،إنها تتراجع.. هل نستمر بالتقدم يا سيدي؟
ـ نعم.. نعم.. انتبهوا جيداً قد نعثر على أشكال أخرى من الحيوانات، يجب أن نظل مهيئين لذلك..
ـ نعم يا سيدي..
وظهرت أبواب تطل على غرف واسعة.. أشبه بالسجون.. ولم تكن في الحقيقية سجوناً إنَّما كانت أمكنة لإقامة الجنود..
دخلنا ممراً جديداً.. كان يطل على ساحة داخلية مغلقة.. كانت ساحة دائرة جدرانها مزخرفة.. في نهايتها درجان طويلان صاعدان!
- سنستخدم أحدهما.. هيا.. ليت أحدنا يعرف قراءة هذه الكتابات إنها تفسّر ألغازاً كبيرة. وانبعث صوت يهدر كأنه يجيب عن سؤالي..
ـ حول ماذا يا سليمان؟
ـ من المتكلم.. لا أرى أحداً..
ـ أكمل صعود الدرج ستراني..
(( كان كهلاً بلحية بيضاء، وحوله مجموعة من الناس يجلسون في قاعة كبيرة يتسرب إليها الضوء من نوافذ في جدرانها العالية.. لم تكن القلعة خالية، كانت مسكونة بأناس يمارسون حياتهم العادية، وينتقلون من خلال الظلام الشديد من أبواب سرية من القلعة، لقضاء حاجاتهم الضرورية وإحضار المؤونة وما يحتاجونه.. وقد يستمرون أحياناً لعدة أشهر دون أن يخرج أحدهم من القلعة.. كانوا يتمتعون ببياض البشرة والعيون الملونة.. وحين أخذت أستفسر منهم عن أصولهم، عرفت أنهم من الفينيقيين الذي استوطنوا المنطقة.. وبنوا تلك القلعة الكبيرة.. وقد تجمّع زعماء القبائل لقتالهم ورفض اندماجهم، فأغلقوا القلعة على أنفسهم وعاشوا حياتهم، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من القلعة، لأنهم كانوا يعاقبونه بشكل يظهر أن العقاب ليس بشرياً..))
***
لم أستطع البوح لأحد بما شاهدته في القلعة، ولكني كتبته بالتفصيل في مخطوطة تتحدث عن السوريين القدماء الذين قدموا إلى هذه الأرض وعاش بعضهم فيها.. وقد جعلتني مرافقتي لـ (كالا) خلال تلك الرحلة، أشعر بحب جارف نحوها..

 

قال سعد:
ـ هنا انتهت الكتابة.. وليس سوى الرسومات
علقت ورقاء:
ـ ذلك الوغد الذي وفد إلينا (أيهم) قد أضاع شيئاً نفيساً عندنا.. عندما باع تلك لذلك التاجر حرقها أمام جدّي حمدان..
قالت لينا:
ـ لا شك أن معلومات هذه المخطوطة قد أفادت الدكتورة ليلى كثيراً..
ـ بالطبع يا سيدتي.. قلبي عليها تلك السيدة العظيمة ترى هل هي حية أم ميتة؟ ليتني أعرف الجواب..
قالت فاطمة:
ـ ربَّما هي مختبئة في مكان ما، تخاف من الظهور وتخاف من الاتصال بنا حتّى لا تعرضنا للخطر..
 تنهدت ورقاء بحرقة:
ـ ربَّما.. وربما أنهوا حياتها، كما أنهوا وأتلفوا تلك المخطوطة التي باعها لهم أيهم قبل أكثر من مائتي سنة..
ـ ربَّما أنت محقة يا خالة ورقاء..
قال سعد:
جئت إلى هنا أبحث عن أثر يوصلني إلى الدكتورة ليلى، وقد شعرت أنني أهملت الاتصال بها لسنوات، فلم استطع الوصول إلى معلومة تنبئني عن مكانها، أو عن مصيرها..
قالت لينا متألمة:
ـ عملنا في هذه البلاد يستنزف قوتنا، من الصباح إلى المساء، وحين نعود نكون مجهدين، لا نصدق أن نستريح في يومي العطلة..
أيدتها ورقاء:
ـ معك حق يا ابنتي.. هه.. فاطمة تعرف عنواني ورقم هاتفي، إن رغبت يا دكتور سعد بزيارتنا والتعرف علينا، سنكون سعداء بك.. أنت وزوجتك لينا..
ـ شكراً لك يا خالة. سنزورك بالتأكيد، وسيسعدني ذلك، أنتم بأصولكم العربية، تشدوننا لتكوين صدقات متينة معكم..
تنهدت بحزن:
ـ نفس عبارة الدكتورة ليلى. (صداقات متينة).. أمَّا عن سالم حفيدي الذي يجلس صامتاً هنا، فلي حساب عسير معه..
قال سالم:
ـ لماذا يا جدتي مادمت استعدت المخطوطة.؟..
ـ لو لم توصلها لفاطمة، لكانت ضاعت للأبد؟
ـ لأني لو لم أثق بفاطمة لما جئتها بها.. لا تعلمين يا جدتي كم أعاني منذ الحادي عشر من أيلول.. وأنا أرى ما يفعلونه من اضطهاد العرب والمسلمين هنا.. خفت أن ينتقل هذا الاضطهاد إلينا، وربما عثروا بتفتيشهم لبيوتنا على مجلات وكلمات عربية، فيقبضون على من في البيت، كما فعلوا مع الدكتور إبراهيم عم فاطمة..
ـ لن يصلوا إلى هذا الحدّ بالشك بنا.. الدكتور إبراهيم ـ نظراً لاختصاصه في التاريخ، كان يقابل الكثير من العرب والمسلمين، لذلك وضعوا دائرة من الريب حوله.. قاتلهم الله..
ـ أنا آسف يا جدّتي، أعلم أننّي سأصبح معزولاً ولن يكلمني أحد منكم لأيام وربما لأسابيع ولكني آسف فعلاً، لم أعرف أن هذه المخطوطة لها هذه الأهمية..
ـ أنت تعمل مع شرطتهم السرية.. تستطيع إبعاد أي شك بنا بل وتستطيع المساعدة بشأن إبراهيم..
انفتح الباب ودخل محمد:
ـ لا داعي لذلك، إبراهيم معي الآن.. تفضل يا أخي.. لدينا ضيوف تعرف بعضهم.. الدكتور سعد وزوجته من بلاد الشام.. من سورية..
ـ تشرفنا.. كيف حالك يا ورقاء؟
ـ الحمد لله.. قلقنا عليك..
ـ أحضر المحامي إثباتات أنني بعيد عن الاختلاط بالأصوليين هنا.. ومعظم من قابلتهم، كانوا أساتذة جامعات يزورون البلاد، أو شخصيات رسمية..
سأله سعد:
ـ يا دكتور إبراهيم، نحن قلقون على الدكتورة ليلى.. لا خبر عنها؟
ـ الدكتورة ليلى، امرأة قوية، لا أعتقد أنهم ينجحون في إيقاف مشروعها.. هي ليست من الغباء أن تضح نفسها في طريق عيونهم وملاحقاتهم..
ـ يعني أنت مع رأي فاطمة، أنها أخفت نفسها في مكان بعيد عن محاولاته لحصارها.؟.
ـ يمكن.. حماها الله هي سيدة غير عادية..
أصرت فاطمة على دعوتهم على العشاء، وقد قاربت الساعة السابعة مساءً.. ولم تترك ورقاء وحفيدها سالم يخرجان.. رغم أن "سالم" تعلّل بأن عمله يبدأ في الثامنة مساءً..
ـ تتناول العشاء معنا وتذهب.. العشاء شبه جاهز..
ـ سيأتي العشاء في السابعة والنصف، طلبناه من المطعم المجاور..
ـ قد أتأخر يا دكتورة فاطمة..
ـ لا تقلق يا سالم.. مكان عملك ليس بعيداً عن هنا، وليس هناك ذلك الازدحام المروري الذي كان من قبل..
ـ حسناً .. سأخرج نحو الثامنة إلاّ ربع.
حاولت فاطمة إقناع الجدة أن تسامح سالم ولكنّها كانت شديدة العناد..

1 التعليقات:

بارك الله فيك ممكن اشترك معاك على المدونة عندي بعض النصوص السياسية

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites